خاطرة: أي قانون ستطبّق عليّ؟

من حصار إلى آخر، بين ذهاب مسؤول وقدوم آخر، بين ما سيكون دوما هدنة- مهما طالت- وأخرى، ستظلّ أسئلة المنفى تفرض نفسها. وهناك دوما من يجيب عن أسئلة “وطنية” سيادية متجاهلا بالأصل وجود أسئلة المنفى، أو تلوك الألسن أسئلة “إنسانية” تتعلق بالإعاشة وملء الأفواه..

منذ أكثر من عامين، لم تملّ سمفونية تطبيق القوانين حول الفلسطيني “الخارج عن القانون” في نهر البارد. الخيام البركسية تتكاثر، ودوائر الدولة المعنية بنهر البارد تتكاثر وكل منها مرتبط بتمويل سفارات تتكاثر حول هذا المخيم المتمزق قطعا وأرقاما وحروفا وخيما ومشاريعا دولية، وتريد كلّ منها بطريقتها الخاصة تطبيق قانونها ومخيمها الخاص إلى أن وصل الأمر إلى تطبيق نماذج أميركية وبريطانية على نهر البارد!

منذ عامين وأكثر، لفّ المخيم سياج حديدي بسرعة، وشُيّدت على الفور جدران رمادية وحواجز، بينما لم يظهر حتى الآن بناء بيت في الجزء القديم من المخيم. أما في المنطقة المحاذية له تماما، فما زالت الأفكار القانونية تتأمل الكأس وتدوّره وتستمني قانونيا: هل نعتمد هذا الحلّ القانوني أم ذاك لإعادة إعمارها، كلها مخالفات، كيف سنحلها، لو فعلنا ذلك، لو خرجنا بهذا الحل..؟

هذا حوار من خلاصات تجربة يومية تجترّ بعضها يوما بعد يوم، مسؤولا بعد مسؤول.

– أريد تطبيق القانون. أنا لست ضدّك، فقط أريد تطبيق القانون.

– وأنا لست ضدّك، ولكن أيّ قانون؟

– القانون الوطني.

– أنا أعيش في خيمة من جديد، ولم أبنِِ سقفا حتى الآن، وأنت تريد تطبيق قانون الاسمنت المسلّح. ألا تنتظر قليلا؟

– لا يمكنني. لقد اتخذنا قرارا عاجلا بتطبيق القوانين في المخيم وبدأنا الإجراءات العملية ودخلت الشرطة. لا يمكن أن يكون أيّ من في البلد خارجا عن القانون.

– ولكن بأي قانون دمّرت مخيمي؟

– قانون الحرب.

– وما شأني أنا بحربك؟ أنا لم أحاربك لتطبّق عليّ قانون الحرب وتتعامل معي كأسير حرب، بل أقلّ من ذلك، فأسير الحرب له حقوق تحميه من التعذيب وتضمن له محاكمة عادلة. هل أخطأت عندما لم أحاربك؟

– الإرهابيون خرجوا من عندك.

– وعقيد عميل للموساد خرج من عندك. فهل اعتبر جيشك عميلا للموساد لأن عقيدا كبيرا مدججا بكل الكراهية ضد مخيمي كان يقود فرقة خرج من عندك؟ لم يكن أيّ من قيادات “فتح الإسلام” من المخيم، بل أن مقاتلوه اللبنانيون أكثر من الفلسطينين، وليس فيهم من المخيّم إلا قرابة خمسة أشخاص..

– لست معنيا بالأمور السياسية. أنا معنيّ بالأمور المهنية التي تتطلب تطبيق القانون.

– ولكنك تطبّق عليّ قانونين: قانون عسكري وقانون مدني في آن! يختبئ الواحد منهما في جزمة عسكري أو تحت بزّته المدنية. المخيم أعلن منطقة عسكرية محاطة بالحواجز والأسلاك مترا مترا وبتصاريح المرور مرأة ورجلا وطفلا وعجوزا وحتى غنما، ودخلها بوليسك “المدني”، وتتحدث عن المهنية! ثم لو أننا تغاضينا عن قانون العسكر وجروح الحرب، لو تغاضينا عن حرق البيوت وسلبها بعد انتهاء الحرب. لو تغاضينا عن قتل المدنيين بالقصف العشوائي والقنص. لو تغاضينا عن التعذيب المعمّم للمئات خلال الحرب. لو تغاضينا عن الحصار اليومي لأكثر من عامين. لو تغاضينا عن هدم المخيم ومنع العودة إليه ثم جرفه. لو تغاضينا عن العريّ من كل شيء من جديد. لو تغاضينا عن الخوف المعمّم والسجون والتيئيس وما يستتبعها من إنشاء شبكات المخبرين التي تملؤ أزقة البيوت المهدمة وتزيد المخيم توحّلا. لو تغاضينا عن تهجير جديد؛ أي لو تغاضينا ببساطة عن انسانيتنا.. فإن قانونك المدني يجرّدني من إنسانيّة أفقدتني إياّها بقانونك العسكري.. قانونك المدني يمنعني من العمل مع سكوت مدافع التحرير، وتملّك سقف دفعت ثمنه ليحميني من كوابيس المنفى. أهل ستجرّدني من انسانيتي مرتين؟

– رجاء لا أسمح لك بالتحدث عن جيشنا الوطني بسوء.

– حتى أنا من عليّ أن أدافع عمّن يقمعني! نقدي يفيد جيشك وسلوكا فيه، بينما أنت تشجع على ممارسات الميليشيا.

– أنا أريد فقط تطبيق القانون المدني حتى يتسنى لنا تغيير القانون المدني الذي فيه بعض تمييز ضدك في بعض الفقرات في بعض المواد في بعض القوانين.

– متى تغيّر القانون، متى يعود بعضي إلى بعضي؟

– لا أعلم. المهم تطبيق القانون الوطني على كل الأراضي الوطنية. نحن نعاني من نقص السيادة، وقضيتنا الأساسية هي السيادة الوطنية.

– لكن الأرض التي تتحدث عنها وأعيش فوقها هي منفاي. أرضي هناك وأنا هنا. ألا يوجد في قاموسك قانون للمنفى.. قانون للمشتتين الممزقين بين مكانين؟

– أنا لست بلد لجوء! قانوني قانونك. ما يسري عليك يسري عليّ.

– لكن أنت في وطنك. وأنا بلا وطن، وبلا هوية وطنية وحقوق وطن، وحقي مسلوب، إذا أردت أن أستخدم اللغة القانونية لتفهم. هل تعلم معنى أن تفقد وطنا؟ أن تفقد هويتك الفعلية؟ أن يتلعثم قرفا من يسألك عن هويتك عندما يعرف أنها فلسطينية؟

– هذه مسؤولية دولية.

– أعلم. ولكن ما مسؤوليتك فيها؟

– عندما تتفق الدول، أتفق معها.

– وعليّ الانتظار؟ انتظرت أكثر من ستين عاما تطبيق قانون حق العودة الدولي 194، وتطبيق القانون الدولي 242 ضد احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة.

– هذا قدرك وقدرنا..

– ولكنك أنت- لا أقصدك أنت- حررت أرضك بالقوة ولم تنتظر الدول لتنفيذ القرار الدولي 425 لتحرير الجنوب.

– لا يمكن أن يكون تحرير أرضك على حسابي. العدو أقوى مني. وسيدمر بلدي إن أردت تحرير بلدك.

– ولكنك لم تقل ذلك خلال تحريرك للجنوب.

– لم أتمكن من قول ذلك حينها. ولكني الآن أتمكن من قولها! أنت بالأصل سبب مشكلة احتلال الجنوب!

– بل أنت لا يعنيك الجنوب مثلما لا تعنيك فلسطين مثلما… مثلما لم تفهم الإسرائيلي يوماً، سواء عندما كرهته أو عندما تعاملت معه أو هادنته.

– أنت تعلم أن البلد مركب بطريقة طائفية حسّاسة. والرجاء ألا تتدخل بالأمور الداحلية، فهذا شأن سيادي.

– لو تمكنت من التغاضي عن الطائفية فلا يمكنني التغاضي عن العنصرية، وإن كان حبل صرّي يربط بينهما. تطبيقك للقانون الوطني هو على حسابي أيضا، وعلى حساب حق تقرير مصيري! ألا يمكننا أن نجد صيغة للتفاهم؟ ألا يمكننا أن نكون أخوة، أصدقاء، أحبّة، صحبة، شركاء، جيرة أو أي شيء آخر غير ما تعاملني منذ منفاي الأول، منذ المكتب الثاني وتصاريح الدخول والخروج منذ وصولي إلى هذا البلد وقبل وجود مسلحين فلسطينيين؟ فعدوّنا مشترك، هل أنا بحاجة لشرح ذلك أيضا..؟

– سأفكر بذلك. عليك الانتظار!

– ولكني لا أستطيع الانتظار. فأنا كل يوم مهان من الإسرائيلي الذي سرقني من وطن، ومهان منك في خيمتي التي تلد خيما. لا تسمح لي بالعيش بشكل أقل من عاديّ، تحت سقف أقلّ من عاديّ، بقوت أقل من عادي، بكرامة الحدّ الأدنى، بينما مدافع التحرير صامتة، ولا تسمح لي بحمل البندقية لتحرير وطني. ماذا تريد بالضبط؟ إذا كنت لا تريد أن أسترد بلدي بالقوة من داخل فلسطين وخارجها، ماذا تقترح؟ هل لديك تصوّر ما غير نشيدك الوطني الدستوري “رفض التوطين” – وكأني تحدثت به يوما؟ يوجعني أن يصيبك بعض وجعي، أن يصيبك جرحٌ من موتي، أن يصيبك الإسرائيلي بسوء بسبب..ـه، ولكن هل عندك تصوّر ما فعّال غير الكفاح؟

– أنا لا أهتم بالسياسة. أريد فقط تطبيق القانون! ثم هناك المبادرة العربية للسلام.

– وكيف سيصل الملوك والرؤساء وأصحاب الفخامة العرب إلى تطبيق مبادرة ورقة التوت؟ فهي مرفوضة من اسرائيل، فاسرائيل تفضّل أن تراهم عراة كما اعتادت عليهم.

– لا تستهن بالإتصالات والديبلوماسية الدولية. وإذا لم تعجبك المبادرة العربية، فهناك اتصالات حتى من أعلى المرجعيات الروحية ببلدنا مع الأصدقاء الغربيين لتسهيل رحيلك إلى دول العالم. ألم تسمع نداء…

– سمعت وكأني لم أسمع. أقترح أيضا تنسيقكم مع اسرائيل من أجل “تقاسم العبء” الفلسطيني والقيام بـ “ترانزفير” جديد مثل صبرا وشاتيلا. لقد كان تنسيقا فعّالا آنذاك. وعندي أيضا ثقة بديبلوماسية الإسرائيلي أكثر بما لا يقارن مع ديبلوماسية أصحاب الفخامة العرب.

– لقد أدخلتني كثيرا بالسياسة. أنا مسؤول فقط عن تطبيق القانون بلا وجع رأس.

– ولكن بغياب تطبيق قانونك، تعتبرني خارجا عن القانون. وإذا طبقت قانونك، فأنا أيضا خارج عن القانون! لأنني لا يمكنني بقانونك العمل وحتى فتح بقالة أملّ الجلوس فيها، ولا أستطيع تملك سقف بنافذة لا تدخل الشمس إليه، ولا أستطيع تأسيس حتى جمعية تنادي بحق تأسيس بقالة. ولا يمكنني، في حال تحسست كرامتي فلم أجدها، أن أحمل بندقية ضد الإسرائيلي. لا يمكنني حتى أن أصل سائحا إلى الحدود وأشارك بطقوس رمي حجر من على الحدود ليصير عصفورا فوق الجليل.

– أتهدد؟!

– أنا أهدد الإسرائيلي. لماذا تعتبره تهديدا لك؟

– لأن الإسرائيلي سيدمرني أيضا.

– ولكن ما مسؤوليتك عن وجود الإسرائيلي وقوّته أيها الموظف العربي الرسمي، الممول من الإتحاد الغربي؟

– أنت تزايد عليّ.

– بل هو الإتحاد الغربي نفسه بات يزايد عليك! يطلب لي حقوقا في بلدك وإن ما زال يصمت عن بلدي! ألا تخجل من ذلك؟

– لماذا هذا الإصرار على التملك والعمل وتغيير القوانين، أتريد التوطين حقا؟

– لو أردت التوطين لما رفضت مشروعك أنت بالذات ببناء أبراج نسكن فيها بدلا من المخيم، ولما أصرّيت على أن يُعاد بناء أحياء المخيم بحسب قراه الفلسطينية كما كان: الغابسية وسعسع والبروة وصفوري والدامون وصفد وجاحولا والشيخ داوود والزيب وغيرها. حتى في حياتي اليومية، وأنا أبني حجرا، أقاوم الإسرائيلي ومحاولته مسحي من الوجود الوطني والفعلي ومن ذاكرتي. شكرا لأنك تذكرني دوما بمنفاي، ولكني لست بحاجة إلى تذكره كل دقيقة. أودّ أحيانا أن أغفو قليلا بين تكرار سؤال منفى وغصّة إجابة. هذا كل ما أريد.

– عليك الإنتظار.

– أتعلم؟ في حديثني معك استخدمت مفردات الأمن والسيادة والقانون تكرارا من دون أن تشعر بالملل. أنت تستخدم هذه المفردات لتجعل شعبك يخاف مني، ليعتقد شعبك بأني ضده، وهكذا تتملص من مسؤوليتك حتى السياسية من الإحتلال وتحرير فلسطين، بل وتتملص من مسؤولياتك تجاه كرامة شعبك وقضاياه المختلفة. السلاح آخر ما يمكن أن يستخدم قبل أن تتحمل مسؤوليات سياسية وغيرها. لكنك لا تريد أن تفعل شيئا غير أن تكرّه شعبك بي. إذا كان لي أن أعيد تحديد المهام الوظيفية للموظف الرسمي العربي، فهي تنحصر بالمتاجرة بالكلمات، باللعب بالكلمات، بقلب الحروف والمعاني.

– وأنت لا تعرف إلا لغة الإتهام! لماذا لا تفعل شيئا مفيدا بنفسك؟

– لأنك قانونك غير المكتوب يمنعني من عمل شيء مفيد! بالحقيقة منذ عقدين قد أكون لم أفعل شيئا مفيدا.

– لماذا لا تكفّ عن اعتبار نفسك ضحيّة؟!

– لأنني ضحيّة!

– لن تتمكن من فعل شيء عندما تظلّ حاصرا نفسك بالضحية.

– صحيح. منذ عقدين لم أفعل شيئا مفيدا. أنت قلتها. سأحاول أن أفكر بأنني لست ضحيّة، ولكن حينها عليك أنت أول من يخاف

– الخ الخ

Leave a comment