مصر وتونس في المخيمات الفلسطينية في لبنان: دروس للسلطة السياسية ونظامه الأمني والناشطين والأونروا 2/2

 أولا، السلطة السياسية:

السلطات اللبنانية المتعاقبة، أو النظام اللبناني، تنحو إلى عقلية أمنية في التعامل مع الفلسطينيين والمخيمات في لبنان، وإن كان يدعو للأمل دعوات رسمية لبنانية مختلفة لتغيير ذلك. كان ذلك واضحا بعد انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية حيث فرضت اجراءات أمنية مشددة على مخيمات جنوب لبنان، بينما اهتمت سلطات الأمر الواقع ببقية مخيمات لبنان. وعلى الرغم من ترقب تغيير في العام 2005 وانشاء لجنة الحوار اللبنانية الفلسطينية، فإن أحداث مخيم نهر البارد أعادت تعزيز العقلية الأمنية. وكلفت الحكومة اللبنانية الجيش اللبناني باتخاذ اجراءات أمنية مشدّدة بعد انتهاء الحرب حيث فرضت تصاريح أمنية على السكان المدنيين أو على زائري المخيم، كما كلفت الحكومة الجيش التدخل حتى في عملية التخطيط والإعمار. بل أن لجنة الحوار اللبناني الفلسطيني التي أقيمت للحوار والتغيير صارت تبرر اجراءات أمنية مثل التصاريح الأمنية في نهر البارد (مسؤولها في تصريح للـ بي بي سي في ديسمبر 2009).

وما يحدث في مخيم نهر البارد يبدو شبيها بعودة للعقلية الأمنية بعد نكبة الفلسطينيين في العام 1948. ففي ذلك الحين فرضت تصاريح أمنية على اللاجئين الجدد والمخيمات واتخذت اجراءات أمنية مشددة بحق المدنيين. وكان لافتا تصريح مسؤول بارز فلسطيني في العام 2010 بأنه حمل السلاح في العام 1969 ليس لتحرير فلسطين بل للدفاع عن مخيمه “ضد الذل والعار”. وهي عملية جلبت آثارا مدمرة للفلسطينين واللبنانيين لاحقا.

وفي لجوء السلطات اللبنانية إلى العقلية الأمنية، فإنها تستمر بتهميش الفلسطينيين اجتماعيا وقانونيا، ومصرّة على عدم تعديل القوانين التي تميّز بحق الفلسطينيين مقابل محاولات تجميل لا أكثر، كما أنها لم تقم بأي خطوة فيها بعض الجديّة بتحريك ملف عودة اللاجئين عدا عن شعارها الذي يبدو موجها ضد اللاجئين أنفسهم “رفض التوطين”. وبالتالي، فالسلطة تراكم مظاهر السخط، وهو ما تبدّى بارتفاع الأصوات مؤخرا في مخيم نهر البارد أو على السمتوى الفلسطيني العام في لبنان.

غير أن السلطة اللبنانية تملك بوادر تمكنها لتغيير موقفها خصوصا مع وجود دعوات قوى لبنانية بمنح الحقوق المدنية وتغيير العقلية الأمنية في التعامل مع الفلسطينيين. وكانت قد بدأت في العام 2010 ببعض التعديلات، لكن جلّ الأصوات الفلسطينية اعتبرتها هزيلة وتمثيلية. بينما ما زال مخيم نهر البارد يشهد تزايدا في فرض سياسات عمرانية وأمنية متراكمة بزخم، بعيدا عن الحوار والشراكة. وكأن السلطات اللبنانية، أو بالأحرى النظام اللبناني، يتوسل انتفاضة شعبية فلسطينية في المخيم وبقية المخيمات!

ثانيا، دور الجيش وتوكيله فرض النظام الأمني:

الجيش لم يتورط في الأحداث في تونس ومصر (حتى الآن) مثلما أرادت له السلطة السياسية ذلك، رغم أنه كان جزءا من أداة القمع التاريخية للنظامين (وبشكل أخص مخابرات الجيش)، لكن قيادته امتلكت وعيا سريعا وتأقلمت مع التطورات واستدركت بالابتعاد عن توريط نفسها في الاصطدام بالناس والناشطين والمحتجين أثناء الثورات الشعبية.

وبينما يقترب الجيش اللبناني من ذلك في لبنان عموما وسط أزمة لبنانية مديدية، فإنه من المفيد له التعلم من ذلك في التعامل مع مدنيي المخيمات الفلسطينية والناشطين فيها أيضا والذين هم جزء من الحالة السياسية والاجتماعية في لبنان، بل أن بعضهم لبنانيين.

جزّ الجيش نفسه بقوة، بحسب شهادات وتقارير باتت كثيرة وذات مصداقية عالية أو بحسب رؤية مداخل كثير من المخيمات المتمترسة بحواجز الجيش، في التعامل مع المدنيين والناشطين الفلسطينيين واللبنانيين في نهر البارد بصورة قاسية في مواضيع حرق البيوت ونهبها بعد الحرب، منع العودة إلى المخيم القديم، فرض تصاريح أمنية، تعذيب فظيع (أكثر من مئتي حالة تعذيب وقت حرب نهر البارد بحسب هيومان رايتس ووتش)، فرض حالة عسكرية، اعتقال ناشطين متكرر، التدخل القويّ في أمور الإعمار والتخطيط.

فأول درس للجيش هو أن يأخذ الحياد بين مطالبات مدنية وشعبية فلسطينية وبين السلطة السياسية اللبنانية. وثاني درس له هو أن يرفض التوكيل له بممارسة سياسات قمعية بحق المدنيين الفلسطينيين. فمثلما كانت تقول قيادة الجيش بأن الحلول سياسية بين الأطراف اللبنانية المتنازعة، فإن ذلك يمكن تطبيقه في ما يخص المدنيين الفلسطينيين، ويمكن للجيش أن يدعو السلطة السياسية للتعامل مع الفلسطينيين لا أن يكون أداة قمعية في التعامل مع المدنيين الفلسطينيين. ومن الضروري للجيش ان يتعلم من ذلك ويرفع حالة الحصار الأمني في نهر البارد وغيره من المخيمات. ففي لبنان هناك قوانين طوارئ في ما يتعلق بالفلسطينيين.

كما أن ذلك يطرح تساؤلات على الناشطين الفلسطينين واللبنانيين حول سؤال تحييد الجيش من اعتراضاتهم، ولكن وسط إشكالية واضحة بأن الجيش هو حاليا الوجه المباشر للسلطة السياسية، وهو بالتالي من يفرض التصاريح الأمنية ويمارس اعتقالات وغيرها من الممارسات.

حتى في الثورات الشعبية المدنية، فإن تدخل الجيش يعتبر فتاكا ضدها بحسب تقرير للـ بي بي سي مؤخرا كما حصل في ساحة تيانمن في الصين في العام 1989، وكما لم يحصل في انتفاضات شرق أوروبا وروسيا قبل عقدين، كما لم يحدث في تونس ومصر حتى الآن.

في المقابل، ثمة من يلفت الانتباه إلى أن قمع الثورة الإيرانية في العام 1979 كان حادّأ من قبل الجيش الذي قصف المتظاهرين وقتل آلاف، فإنه لم يعق الثورة وإن دفعها لتكون أكثر حديّة ودموية لاحقا.

ثمة درس هام حدث في اعتصامات مخيم نهر البارد عند وقف إعماره في العام 2010 حيث جرت اعتصامات مدنية ضخمة في المخيم موجهة ضد سياسة وقف الإعمار، وارتفع فيها الصوت كاسرا كلّ محظور سياسي أو قمع، في وقت نأى فيه الجيش والمتظاهرون بأنفسهم عن الاحتكاك المباشر أو المواجهة. فعندما تكون المطالبات مدنية أساسا ومطالبة للسلطات السياسية بتغيير موقفها فإنه من الممكن رفع احتمالات تحييد الجيش عن أيّ مواجهات دموية، ولكن مع مطالبته بألاّ يكون أداة النظام القمعية.

 ثالثا، دور الناشطين الشباب والأحزاب:

من الواضح أن هذه الانتفاضات والثورات الشعبية الشبابية العربية تأتي من خارج الأطر التقليدية الحزبية والنقابية وغيرها، وتشهد إصرار الشباب العربي الذي بات يمثّل أكثر من نصف الشعوب على تحديد مصيره وسط السلطوية وسياسات الإفقار والتهميش. وهو ما ينطبق بشكل كبير على حالة المخيمات الفلسطينيية في لبنان. فالتحركات الشعبية الضخمة في العام الماضي في المخيمات الفلسطينية وصولا إلى بيروت كانت بعصبها الأساسي من خارج عصب التنظيمات الفلسطينية.

ولكن من الإيجابية أن التنظيمات السياسية لحقت بهذه الاحتجاجات، ورأى البعض أنها وفرت “غطاء سياسيا” لها. لكن تواتر هذه الأحداث يسرّع من تساؤلات للتنظيمات حول طرق عملها مقابل أدوات شبابية مدنية جديدة باتت التنظيمات متخلفة عنها في كل مكان. بل وتبدو أساليب التنظيمات ولجانها الشعبية والأمنية توفر تبريرا مستمرا للسلطة اللبنانية لترويج الاجراءات الأمنية، عدا عن أنه يستخدم في توتير الوضع أمنيا من وقت لآخر. فهل من مخارج مدنية لا تستبدل السلاح الفلسطيني بسلاح لبناني قمعي كما يحدث في نهر البارد؟

روح الشباب ترتقي بسرعة فلسطينيا. في غزة مؤخرا ظهر تيار جديد للشباب ليتجاوز “حماس” و”فتح”. والروح الشبابية المنتفضة في الضفة الغربية هي من يجبر رئيس وزراء السلطة للذهاب إليها عساه يأخذ بعض الشرعية منها. وفي أراضي الـ 48 صعّد الشباب من احتجاجاتهم سواء في المدن الفلسطينية قبل سنوات أو خلال الحرب على غزة وغيرها. وفي مخيمات لبنان، فإن الروح الشبابية واضحة على التحركات الاحتجاجية والمطلبية. والحركة الدولية المتضامنة مع فلسطين هي ذات روح شبابية واضحة.

وبات الشباب يبتدعون أساليب جديدة. كثيرون باتوا يستخدمون الانترنت للتواصل. في نهر البارد ثمة أكثر من موقع الكتروني، وموقع المخيم هو ذو شعبية كبيرة. وثمة مواقع انترنت تجمع المخيمات الفلسطينية في لبنان. وقد استخدمت مواقع الانترنت لكسر المحظورات بل وأكثر من ذلك استخدمت في حالات احتجاجية ومطلبية، بل أن بعضها ظهر بسبب ذلك.

ومن أمثلة انعكاسات هذه الروحية الشبابية أيضا الظهور اللافت لحركات “راب” شبابية ذات نفس احتجاجي واضح وساخط سواء في مخيمات لبنان أو في داخل فلسطين. وهناك أغنية مشهورة في نهر البارد تتحدث عن الإجراءات السلطوية في نهر البارد، ومغنيها نفسه تعرّض للحبس. كانت قوى اجتماعية وسياسية مشككة بهذا النوع “الغريب عن مجتمعنا” مما يدلّ أيضا كم أنها باتت متخلفة عن الروح الشبابية الصاعدة. بل أن حتى موضوع إعادة الإعمار في نهر البارد كانت فيه مبادرة شبابية واضحة مقابل منحى لانشغال القوى السياسية بالحسابات الذاتية. 

لعلّ أكثر ما أثار شرارة الاستقلالية الفلسطينية في المخيمات هي تلك الحركة الاحتجاجية في مخيم شاتيلا في العام 2005، والتي قامت باجراء انتخابات حينها في المخيم لتحلّ مشاكل الكهرباء والماء وغيرها. كانت لحظة تظهر أولا ضعف التنظيمات، وثانيا روح المبادرة الذاتية الجديدة وصولا إلى احتجاجات العام 2010 على مستوى مخيمات لبنان.

ثمة تحدّي شبابي واضح. أمسكت شابة لبنانية لوحدها، نهاية العام الماضي، لافتة تعترض على اجراءات التصاريح الأمنية أمام  حاجز للجيش اللبناني عند نهر البارد. وعند اعتقال شاب آخر قامت حركة تصعيدية ضدّ اعتقاله والاجراءات الأمنية. وخرج معني “راب” من السجن ليسجل في مخيمه أغنية عن القمع والإجراءات الأمنية. هؤلاء الشباب كسروا الخوف، ولا يهابون الاعتقال ولا التهديدات الروتينية.

إذن، ثمة تراكم احتجاجي مستقل ومتصاعد منذ سنوات، وثمة اجراءات سلطوية متصاعدة، وفقر وتهميش وتمييز ترفض السلطة حتى الآن انهاءه، فهل ستتفاجأ السلطة اللبنانية حقا إذا فاجأتها حركة احتجاجية في المخيمات تتجاوز الأطر التمثيلية في المخيمات وتكتسب شرعية ناس المخيمات.

وهل ستبقى  التنظيمات تتحدث (وحتى بخجل) عن “تطوير اللجنة الشعبية”، أو يتحدث أقطاب النظام اللبناني عن “الشرطة المجتمعية” أو الباحثون عن “حوكمة” governance بلا حريّة ولا تخرج من الناس والناشطين أنفسهم كعملية افعلية وليس كنماذج تُسقط على المخيمات؟

النظام اللبناني (المنقسم في ما بينه طائفيا والمتحدّ عموما ضد الفلسطينيين) يلجأ إلى تبريرات مثل “الفلسطينيون منقسمون” و”لا نعرف مع من نتحدث”، وإذا ما حدثت حركة احتجاجية فإنها أيضا لن تعرف مع من تتحدث إليه!

وثمة أسئلة من مصر وتونس تلاحق بدورها الناشطين الشباب الفلسطينين في لبنان. لا تبدو هموم الأنا والقيادة واضحة على هذه الثورات الشبابية العربية، مع منسوب أعلى للعفوية والتنسيق الفضفاض والمبادرات والإبداع والتنوع الهائل. يُقابل ذلك تلمس الأنا بسهولة في الأجواء الفلسطينية في لنبان، كما الأجواء اللبنانية أيضا، وهي بلا شك ما يمكنه أن يعيق أيّة تراكمات. مثلا، لم تغادر الأنا تحركات نهر البارد الشعبية سابقا.

يُفهم أن درجة التهميش التي يتعرض لها الفلسطينيون، وكلّ سلطة تقول له وبالعصى والقهر “أنت لا شيء”، فإنّ المتوقع أن ردّة فعله هو إظهار “أناه” وتضخيمها “ليكون شيئا ما”. وهذه الأجواء المعطوفة على افتراض تزايد “الأنا” في أدبيات النظام العالمي العام والخطاب النيوليبرالي، بل وربما حتى تربية الأم بقولها لإبنها “إنت أحسن حدا يمّا” سوف تجعل الأنا تتضخم لتعمي صاحبها أولا. فنجد مثلا التقاتل على من يلقي كلمة أمام أيّ جمهور معركة حقيقية بين ناشطين.

أو أن ثقافة للتنظيمات ظلّ كلّ منها يحتكر امتلاك “الحقيقة الثورية” وتخوين غيره في كثير من الأحيان له انعكاسه على ثقافة ناشطين حاليا وإن بدرجة أقلّ، فكثيرا ما يُسمع عن تخوين الآخر عند إشكال أو إختلاف في الرأي وطريقة العمل. وليس لنا أن ننسى ثقافة “العصبية والتعصيب” التي تراكمت في الوسط الفلسطيني، كجزء من المجتمع العربي الذي يعاني ما يعانيه وأكثر شيء من أنظمته القمعية، وكتراكمات من حالات التهجير المتتالية منذ العام 1948 مطويّة طبقة فوق طبقة.  

خرج وائل غنيم من الحبس المصري، باكيا على شاشة التلفزيون، قائلا بأنه ليس بطلا، ضاربا واحدة من أهم معوقات ثقافة سائدة (وإن يمكن فهم أسبابها بسهولة). ونستمع يوميا إلى مقابلات شباب وشابات ناشطين مصريين يمثلون تنوعا هائلا. صحيح أن الحركات الشبابية المصرية وجدت نفسها تحت ضغط بعد أسبوعين لتنسق نفسها في إطار وتختار منسقا، بسبب محاولات النظام المصري التحاور مع الأحزاب السياسية وإستقطاب شباب، لكن من المقولات المتكررة التي نسمعها من الناشطين المصريين هي أن عدم وجود قيادة هو من نِعم الثورة.

يمكن القول أيضا أن تراكمات تاريخية شبابية فلسطينية في لبنان تُظهر أن الميل نحو النضال إلى الحرية بلا مردود شخصي له عفويته وزخمه. من أمثلة ذلك، في العام 2000، وكهبة متصلة بالانتفاضة الفلسطينية، وصل شباب من المخيمات إلى الحدود اللبنانية، وعند وصولهم ركضوا بعفوية وقطعوا السياج الحديدي ليدخلوا إلى فلسطين، فسقط شهيدان على يد الجيش الإسرائيلي من شباب لم يحملوا السلاح. وخلال حرب نهر البارد، خرج شباب بعفوية من مخيم الاوي وتوقفوا بمسافة عن حاجز الجيش. واستشهد شابان أيضا من دون أن يصدر عن المتظاهرين سوى هتافاتهم ومطالباتهم للعودة إلى بيوتهم. 

 رابعا، الأونروا:

باختصار شديد. وبعدما بدأت الأونروا تقليص خدماتها بشكل حاد في المخيمات، فماذا يمكن أن تتوقع في مثل هذه الأجواء؟ سوف تكون السلطة اللبنانية محظوظة لو ذهبت أيّ احتجاجات، أكثر من متوقعة، باتجاه الأونروا!

ولن يتفاجأ أحد أن تطال الاحتجاجات الأونروا في هذه اللحظة التي تقلص فيه خدماتها بشكل كبير، من دون تقديم حدمات تعليمية أو صحية مناسبة، ولا توفر حماية للاجئين من القمع المستمر، ومخزي دورها بتزايد في نهر البارد، وتناى بنفسها عن الإمساك بحق اللاجئين بالعودة إلى فلسطين على غرار منظمة الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين. مثل هكذا احتجاج يمكن أن كون موجها بالأساس ضد “المجتمع الدولي” الذي يقف خلف سياسات الأونروا الحالية والتاريخية، أكثر مما يكون موجها ضد مسؤولين معينيين في الأونروا باتوا عاجزين عن تغيير سياسات الأونروا برغم إرادات بعضهم.

Leave a comment